الكردينال مارتيني
تعتبر كنيسة القديس يوسف في حيفا أغنى الكنائس من حيث الرموز التعليميّة. فأقترح إذًا التأمّل فيها آخذين بعين الاعتبار بنوعٍ خاص ما يقوله تعليم الكنيسة الكاثوليكية في الموضوعات المختلفة. فالتأمّل في الصليب الكبير القائم في وسط الحائط المواجِه يذكّرنا بمحورِيّة هذا السر، على ما أكّده القديس بولس حين قال: "فإِنَّ لُغَةَ الصَّليبِ حَماقةٌ عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الهَلاك، وأَمَّا عِندَ الَّذينَ يَسلُكونَ سَبيلَ الخَلاص، أَي عِندَنا، فهي قُدرَةُ اللّهُ، فإِنِّي لم أَشَأْ أَن أًعرِفَ شَيئًا، وأَنا بَينَكُم، غَيرَ يسوعَ المسيح، بل يسوعَ المسيحَ المَصْلوب." (1قور18:1؛ 2:2) وكما يقول تعليم الكنيسة الكاثوليكية: إن موت يسوعَ العنيف لم يكن نتيجة الصُدفة في تضافر ظروف غير مؤاتية. إنه يعود إلى سر تصميم الله" (رقم 599). "هذا التصميم الإلهي للخلاص بقتل "العبد"، الصديق، أنبا به في السابق الكتابُ المقدس على أنه سرُ فداءٍ شامل، أي سرّ افتداءٍ يحرر البشر من عبودّية الخطيئة" (رقم 601). "يسوعُ [...] في المحبة الفادية التي كانت أبداً توحده مع الآب، اتخذنا، في انفصالنا عن الله بسبب الخطيئة، إلى حد أنه استطاع أن يقول باسمنا على الصليب :"إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟!"" (رقم 603).
فلنتأمّل بالمشاعر نفسها في مراحل الصليب على الجدران الجانبيّة التي تردنا إلى كلمة يسوع: "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَراً كثيراً." (يو12، 24).
ويحسُن أن نتأمّل في درب الصليب على ضوء ما يقول لنا تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة: "ولأن المسيح إذ كان في شخصه الإلهي المتأنِس، قد اتحدَ هو نفسه، على وجهٍ ما، بكل إنسان، فهو يقدم لجميع البشر، على وجهٍ يعرفه الله، إمكانَ اشتراكهم في السر الفصحي. إنه يدعو تلاميذه إلى أن يحملوا صليبهُم ويتبعوه، إذ أنه تألم لأجلنا، وأبقى لنا قدوةً لنقتفي آثاره. فهو يريد أن يُشرك في ذبيحته الفدائية أولئك الذين كانوا فيها أول المستفيدين. وهذا يتم على وجهٍ كامل في شخص أمه التي أُشركت في سر عذابه الفدائي إشراكاً حميماً أكثر من إشراك أي إنسان من البشر". (رقم 618).
ولنتأمّل في فسيفساء الجدران الجانبيّة التي تمثّل العذراء مريم سيدة الكرمل والعائلة المقدسة. ولنتأمّلها ونحن على أتمّ الوعي بمشاركة مريم في سرّ الابن. إن لوحة الفسيفساء هذه هي فرصة تذكرنا بالسرّ الذي تحمل اسمه هذه الرعية وتدعونا إلى قراءة الشخصيات الثلاث، شخصيات يسوع ومريم ومار يوسف، مثال للوحدة والحنان الذي يجب أن يجمع أفراد كل عائلة على الأرض.
ونرى تحت الصليب بيت القربان الكبير وقد وُضِعَ في الأرض. فكما أن الصليب المزروع في الأرض قد أخصبها هكذا يسوع الحاضر في بيت القربان يسهِّل فهم سرّ موت المسيح وقيامته.
ويمثل المذبح العهد الذي قطعه الله مع الإنسان، والذي نقرِّبه دومًا ونجعله حاضرًا في الذبيحة الإفخارستية. وتدعونا اليدان المتصافحتان إلى التفكير في السلام النابع من المصالحة مع الله والذي لا بدّ من نشره بين البشر على الأرض كلّها.
وتمنح الزجاجيّات التي تمثّل الأسرار السبعة مناسبة للتعليم وتربية الإيمان في الرعية ويمكن الرجوع في هذا الشأن إلى تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة.
المعمودية المقدسة هي ركيزة الحياة المسيحية كلها والمدخل إلى الحياة في الروح، والباب الذي يوصل إلى الأسرار الأخرى. فبالمعمودية نُعتَق من الخطيئة ونولد ثانية ميلاد أبناء الله، ونصير أعضاء للمسيح، ونندمج في الكنيسة ونصبح شركاء في رسالتها. " المعمودية هي سر الولادة الجديدة بالماء وفي الكلمة" (رقم 1213).
فغنى الرموز والألوان في الزجاجيّة الأولى يسمح لنا أن نتعمَّق في هذه الوجوه المختلفة.
مع المعمودية والإفخارستيا، يؤلف سر التثبيت مجموع "الأسرار المدخلة إلى الحياة المسيحية" التي لا بدّ من المحافظة على وحدتها. لا بدّ إذن من أن يُفَسَّر للمؤمنين أنّ قبول هذا السر ضروريٌ لإنجاز نعمة المعمودية. "فبسر التثبيت يتوثق ارتباط المعمدين بالكنيسة على وجهٍ أكمل، ويؤتيهم الروح القدس قوةً خاصة تُلزمهم التزاماً أشدّ بنشر الإيمان، والذود عنه بالقول والعمل، فعلَ شهودٍ للمسيح حقيقيين" (رقم 1285).
ويطغى على هذه الزجاجيّة شكل الحمامة الذي يعبِّر عن هذه الواجبات وعن التباين مع المحيط الذي على المسيحي أن يعلن إيمانه فيه.
وتعبّر الزجاجيّة الثالثة عن غنى الافخارستيا: " فالذين رُفعوا إلى كرامة الكهنوت الملكي بالمعمودية ، وتصوروا، بالتثبيت، بصورة المسيح بوجه أعمق، يشتركون، مع كل الجماعة، في ذبيحة الرب نفسها، بواسطة الإفخارستيا" (رقم 1322).
" فشركة الحياة مع الله ووحدة شعب الله هما قوام الكنيسة، وإليهما ترمز الإفخارستيا وبها تتحققان. والإفخارستيا هي قمة العمل الذي به يُقدِس الله العالم في المسيح، كما أنها ذروة العبادات التي يرفعها الناس إلى المسيح، وبه إلى الآب في الروح القدُس" (رقم 1325).
وتعبّر زجاجيّة سرّ التوبة عن أحد أسماء هذا السرّ وهو سرّ المصالحة: " ويسمى سر المصالحة لأنه يمنح الخاطىء حب الله ، إله المصالحة [...] وكل من يحيا بحب الله الرحيم، بوسعه أن يلبي نداء الرب: "إذهب أولاً وصالح أخاك" (رقم 1424).
وزجاجيّة سرّ مسحة المرضى تحدّثنا عن سرّ الألم: "لقد كان المرض والعذاب دائماً من أخطر المعضلات الملمّة بالحياة البشرية. ففي المرض يختبر الإنسان مدى عجزه وحدوده ومحدوديته. وفي كل مرض يتراءى لنا الموت من خلاله" (رقم 1500).
ويعبِّر الجزء السفلي للزجاجيّة عن سطحية الوضع البشريّ وظلمته بينما يطرح الجزء الأوسط والأعلى للزجاجيّة، بظهور صليب المسيح وحركة الألوان المختلفة وتموّجها، إمكانية تخفيف آلام البشريّة التي تمرّ بالمسيح- الطبيب: " شفقة المسيح على المرضى وشفاءه كثيرين بعلل من كل نوع، هما الدليل الساطع على أن " الله قد افتقد شعبه" (لوقا 16:7)، وأنّ ملكوت الله قد أضحى قريباً جداً" (رقم 1503). ولهذا "فإن الكنيسة تؤمن وتعترف بوجود سر من الأسرار السبعة، يهدف خصوصاً إلى مساندة المبتلين بالمرض، وهو مسحة المرضى" (رقم 1511). والقوة التي تنزل من المسيح الطبيب عبر الروح القدس، تلمس حياة المريض وتخلق فسحات من الطمأنينة، يعبِّر عنها اللون الأزرق السماوي في وسط الزجاجيّة.
ويولّد سرّ درجة الكهنوت وضوحًا كبيرًا (الأبيض في وسط اللوحة) من خلال نصاعة إشعاع الروح الذي ينزل على المتقدّمين للخدمة الكهنوتيّة ويعيد ترتيب ألوان العالم بتناسق وانسجام. "سر الكهنوت هو السر الذي يكفل استمرار الرسالة التي وكلها المسيح إلى تلاميذه ناشطةً في الكنيسة حتى منتهى الأزمنة: هو إذن، سر الخدمة الرسولية" (رقم 1536). "بالخدمة الكهنوتية التي يقوم بها خصوصاً الأساقفة والكهنة، يصبح حضور المسيح، بصفته رأس الكنيسة، حضوراً مرئياً وسط جماعة المؤمنين" (رقم 1549).
وينير سرّ الزواج شعلة الحياة ويخلق بصيص أمل حتى في خضمّ البشريّة التي تشدّها قوى مظلمة إلى الأسفل
هكذا تعبّر الزجاجيّة من ناحية: "أنه لا بد لكل إنسان من أن يختبر الشر حوله أو في ذاته. هذا الاختبار نقع عليه أيضاً في العلاقات ما بين الرجل والمرأة" (رقم 1606). فهو يبرز جمال " عهد الزواج الذي به تقوم بين الرجل والمرأة شركة تشمل الحياة كلها، وتهدف، من طبيعتها، إلى خير الزوجين وإلى إنجاب البنين وتربيتهم، قد رقّاه المسيح الرب، بين المعمدين، إلى كرامة سر" (رقم 1601).
وتمثّل الزجاجيّات الخمسة الأخرى مراحل أساسيّة من مسيرة حياة يسوع في وسطنا. فزجاجيّة المعمدان تمثّل فوق كلّ شيء قوة كرازته وشهادته وخشونتهما. وتمثّله كمن ينظر إلى العلاء حيث سيأتي المسيح الذي ننتظره.
والزجاجيّة الثانية فيها وداعة ولادة الطفل واسمه "عمّانوئيل" أي الله معنا. وتقدّم لنا العذراء "سيدة الحياة" هذا الطفل التي تحمله بين ذراعيها في الزجاجيّة الثالثة وتدافع عنه وهي تحمل في نظراتها أفراح وأحزان الإنسانية.
وتساعدنا الزجاجيّة الرابعة على التأمل بوجه المسيح المضيء الذي يحمل آلام العالم بينما تقدِّم لنا الزجاجيّة الخامسة مجد القائم من بين الأموات باللباس الأبيض (كما في التجلّي) مجدًا يضيء من مجد الله وينشره تدريجًا على الأرض التي لا تزال مطبوعة بالخراب والموت.
ويمثّل باب المدخل عبور شعب إسرائيل مياه البحر الأحمر بقيادة موسى، ويعبِّر تعبيرًا جيّدًا عن معنى الخلاص والتحرير الذي يشعر به مَن يدخل الكنيسة، بما أنّها تجسّد قدرة الله التي تجعلنا ندرك أرض الميعاد (الخلاص) بعد تجارب هذه الحياة.
وتوحي الزجاجيّة الدائرية، في واجهة الكنيسة، بالثالوث، مصدر كلّ الأسرار وغايتها. وتتمّ فيه إعادة ترتيب أجزاء التاريخ ومنه ينبع كلّ نور وفرح.
ومشهد معموديّة يسوع رائعٌ على يمين مدخل الكنيسة، عند جرن المعمودية. يسوع يتلقّى الشهادة من يوحنا وهو راكعٌ في الماء بينما نرى السماوات منفتحة وتنبئ برسالة المسيح وتعلن أهميتها.
وتشير فسيفساء عذراء الحبل بلا دنس التي يعلوها شعار الكرمل، على واجهة المدرسة الرعوية، إلى حماية مريم للأعمال الرعوية ومصدر هذه الرسالة الكرملية. بينما تعكس لوحة الفسيفساء التي تعلو العذراء عن بهاء الحياة التي ننتظرها من رسالة الرهبان في هذه الرعية وازدهارها وتذكّرنا بهبة السلام المنتظر كهبة المطر المبارك (راجع 1ملوك 18، 41-46) الذي سبق وحصل في عهد إيليا ونعمة جبل الكرمل على أرض إسرائيل.