من تأليف الأب البير أبونا
من تأليف الأب البير أبونا
أخذت الرهبنة الكرملية اسمها من جبل الكرمل المشرف على البحر الأبيض المتوسط بالقرب من مدينة حيفا، (في وادي السياح) في فلسطين المحتلة الآن. فهناك كانت نشأة هذه الرهبانية، وهناك عاش النبي ايليا شطراً من حياته وقدم ذبيحته لله. ويروي التقليد انه كان ينعزل هناك في مغارة تقع بالقرب من العين التي ما زالت تحمل اسم النبي. وتشير كتابات قديمة المدى ان البيزنطيين كانوا يقصدون هذا الموضع لتأدية الاكرام للنبي. وما زال الناس من جميع الديانات يفعلون ذلك حتى اليوم.
كان الكرمليون في البدء نساكاً ينهجون طريقة النسك القديمة في الشرق، ولم يكونوا رهباناً بكل معنى الكلمة. فلم يكن لهم فرض ليتورجي مشترك ولا هم يعيشون في أديرة حياة مشتركة، بل كانوا علمانيين زهدوا في الدنيا وشرعوا يعيشون في مغاور او اكواخ متجاورة في سفح هذا الجبل، يجمعهم رابط روحي ورغبة مشتركة في الاقتداء بالنبي ايليا، لا سيما بحضره الدائم امام الله وبغيرته العارمة على مجد الله وعظمته. فكانوا عاكفين على التأمل في الكتاب المقدس نهاراً وليلاً في صلاة ساهرة، وكانت الحرية تترك لكل منهم لكي يعيش هذه المثل العليا تحت تأثير الروح القدس.
وكان لهؤلاء النساك وعي عميق بالطابع النبوي لدعوتهم، يولون الناحية التصوفية اهتماما كبيرا.
اما متى اجتمع بعض النساك في ذلك الموضع وشرعوا يقتدون بإيليا، فإننا لا نعلم ذلك بنوع اكيد. ويبدو من الوثائق القديمة ان النساك الكرمليين الاولين كانوا حجاجا من الغرب اقبلوا الى الأماكن المقدسة، ثم فضلوا البقاء فيها للعكوف على حياة النسك والزهد. وغيرهم يرى انهم من بقايا المحاربين الذين نبذوا العالم وطموحاته وحروبه لكي يكرسوا حياتهم لله في العزلة على جبل الكرمل.
وكتب راهب بيزنطي يدعى فوكاس، لدى زيارته للأماكن المقدسة في نحو سنة 1177، يصف هؤلاء الغربيين العائشين كنساك على جبل الكرمل، مشيراً الى أحداث تسبق ذلك الزمان بمدة وجيزة، قال:
"في نهاية المنحدر المشرف على البحر، نشاهد مغارة النبي ايليا. وقد عاش فيها هذا الرجل العجيب حياة ملاكية قبل اختطافه الى السماء. وكان سابقا في هذا الموضع بناية كبيرة ما زالت اطلالها بادية...ومنذ عهد قريب، أقبل كاهن راهب يجلّل الشيب رأسه قادما من "كالابر"، وجعل سكناه في انقاض هذا الدير، على أثر رؤيا ظهر له النبي ايليا فيها. فأقام فيه جدارا صغيرا وبرجا ومصلى، وجمع حوله نحو عشرة أخوة، وهو ما يزال يسكن هناك حتى اليوم".
ونعتقد ان الشيخ يشير اليه يوحنا فوكاس هو القديس برتولد دي ماليفي الفرنسي، وهو سلف القديس بروكارد الذي يعتبر مؤسساً للرهبنة الكرملية، كما سنرى ذلك.
ويقول بنيامين من طليطلة الاسبانية، لدى زيارته للأماكن المقدسة في سنة 1160، ان اثنين من "بني آدوم" اقاما بالقرب من مغارة ايليا معبدا لاكرام النبي. وهناك اشارات الى نشأة الكرمليين وردت في التاريخ الذي كتبه يعقوب دي فيتري مطران عكا في سنة 1220 مستعرضا فيه الاحداث التي سبقت عهده والاديرة التي أقيمت في تلك البلدان. انه يقول في سياق حديثه:
"...وكان هناك آخرون، يقتدون بهذا الرجل القديس والناسك، النبي ايليا، يعيشون في عزلة على جبل الكرمل، وخصوصا في هذا الجزء من الجبل المشرف على مدينة حيفا، بالقرب من عين ايليا، غير بعيد عن دير الطوباوية مرغريثة، ساكنين صوامع صغيرة في الصخور..."
ويؤيد هذا القول اناس آخرون من هذا العهد ويقولون:
"على بعد من دير القديسة مرغريثة، وعلى سفح هذا الجبل عينه، في موقع جميل ولطيف، يسكن النساك اللاتين المدعوون اخوة الكرمل. وقد شيدوا هناك كنيسة صغيرة وجميلة جدا اكراما لسيدتنا (مريم)...".
الحياة الجماعية
في مطلع القرن الثالث عشر، حينما ازداد عدد هؤلاء النساك في جبل الكرمل، فكروا في تنظيم حياتهم الرهبانية والائها طابعا رسميا ثابتا. وكان القديس بروكارد الرئيس الروحي لهم. فقر رأيهم على أن يطلبوا من السلطة الكنسية الاعتراف بوجودهم وإعطائهم قانونا اساسيا. فوجهوا طلبهم الى القديس البرتس بطريرك اورشليم الذي كان مقره آنذاك في مدينة عكا. فسنّ لهم هذا سنة 1209 قانوناً موجزاً يتضمن ستة عشر بندا، وهو مجموعة من العادات الرهبانية التي تخص بالظروف الاساسية للحياة النسكية، وذكّرهم في مقدمة هذا القانون بأن كل حياة رهبانية هي قبل كل شيء خدمة الرب والطاعة ليسوع المسيح والاقتداء به بأمانة وبقلب طاهر وضمير خالص. وفي سنة 1222، ثبت البابا هونوريوس الثالث هذا القانون بسلطته العليا. ولكن سرعان ما دفعت الظروف العسرة الكثيرين من هؤلاء الكرمليين الى التوجه نحو الغرب. فشرعوا يغادرون الكرمل منذ سنة 1235، الى قبرص اولا، ثم توجهت فئة أخرى الى صقليا وغيرها الى القرب من مدينة مارسيليا الفرنسية. وفي سنة 1241 توجه يعدد منهم الى انكلترة. وقد أعجب ملك فرنسا، القديس لويس التاسع، لدى زيارته لجبل الكرمل سنة 1254، بحياة هؤلاء الرهبان وبروحانيتهم، فاصطحب ستة منهم فنسيين الى باريس حيث أعطاهم موضعاً لإقامة ديرهم فيه. وكانت اديرة كرملية عديدة قد أنشئت في نواحي مختلفة من بلاد فلسطين ولبنان، الا ان الظروف اضطرتهم الى اخلاء معظمها.