مفهوم الزواج المسيحي

الأب ريمون جرجس الفرنسيسكاني

الزواج في عصرنا طرأ عليه تغييرات عديدة، واسعة، عميقة، سريعة، من جراء الثقافة العلمنة العارمة التي أخذت تتسرّب إلى عقلية إنسان، مما جعل الزواج يكفهرُّ ويكمدُّ. فالعقلية المعاصرة المُعلمَنة تميل إلى تثبِيتَ قيَّم إنسانيّة لمؤسّسة الزواج وتمييزها وتفريغها من القيم الدينيّة، تتناقض مع ثقافة الإنجيل. فهذا النموذج من الإلحاد العملي واللامبالاة الدينية يعملان على تهميش حقيقة الزواج وملاشاته وجعله بلا قوام ولا توجه ثقافي. حتى أننا نجد أن معظم الأزواج، الذين ينوون الاحتفال بالزواج المسيحي في الكنيسة، يتوجهون نحو إعداد وتحضير موضوع الزواج بأنفسهم حسب نظرتهم الذاتية الخاصّة بثقافة العصر اليوم، مدّعين بأنهم يمتلكون إمكانية إعطاء معان ذات طابع ذاتي لمشاريع حياتهم، وكذلك ما يتعلّق بمفهومهم للزواج.

 

الكنيسة تعلم أنَّ الثقافة العلمنة في عصرنا تنظر إلى الزواج بمفهوم جديد وبرؤية جديدة، و التي تُظهِر مفهوم الزواج من منطلق مبادىء إيديولوجية خاصّة، ذاتيّة أو فردانيّة التي تفترض "حرية"، يمارس فيها المرء ما يشاء، و"يحدّد" هو نفسه "حقيقة" ما يرضيه أو يعود عليه بالنفع. ولا يرضى أن "يريد" الآخرون منه شيئاً، أو يفرضوا عليه أيّ شيء باسم حقيقة موضوعيّة. وهو لا يُريد أن "يعطي" الآخر وفقاً للحقيقة، أو أن يصبح "عطاء مجرداً". من منطلق هذه الثقافة فقد الزواج مضمونه وتحطّمت قيمته سواء في جوهره أو في خصائصه، فنجد تزايد حالات المؤدية إلى انحلال الرابطة الزوجيّة خصوصاً في السنوات الأولى من الحياة الزوجية، تزايد حالات إقامة العلاقات الجنسية التي تُمارس بشكل خفي ما قبل الزواج وما بعده، تكاثر المساكنة الحرة. كل هذه الانحرافات، فضلاً عن مخالفتها للشريعة الأدبية والتعاليم الإنجيلية، تسيء إلى كرامة الزواج، وتهدم فكرة العائلة. وهي تشكلّ علامة خاصة عند المسيحيين لضعف إيمانهم ولانعدام الوعي لطبيعة ولمفهوم حقيقة الزواج المسيحي.

 

في هذا السياق، أمام هذه الأوضاع، ونظراً إلى التحديّات الجديدة التي يجب أن نواجهها، من الضروري التعمّق في معرفة المعطيات الإيمانية وبأن نعيد النظر في القيم وفي لغة الإيمان التي وصلتنا من أسلافنا، وأن نفهم حقيقة الزواج المسسيحي حسب تعاليم الكنيسة الجامعة، وأنّ نقوم بأنجلة الذهنيات والعادات والتصرفات. والكنيسة، في أيامنا، تعي دورها وتشعر شعوراً قويّاً بواجب "أنجلة الثقافات وانثقاف بلاغ الإيمان، من خلال دعوتها أولاً إلى اللقاء مع الله-والإنسان معاً لكي يستطيع كلٌّ منّا اكتشاف حقيقة ذاته وإيجاد الأسس لإعادة وضع القواعد الانثروبولوجية الإيجابية.

 

 

 

مفهوم الزواج في الكتاب المقدس
لا نجد في الكتاب المقدّس، تعليم منظّم حول الزواج بالمعنى المعاصر، لكن ينقل إلينا الكاتب الملهم مفهوم الشعب الله عن الزواج، وتأسيسه، ومصدره وغايته، ضمن إطار النظام الخلق:نقرأ بوضوح في سفر التكوين (2: 18-23) مختصر نظام الاتحاد الزواجي حسب مخطط الله الخالق: "وقال الربّ الإله: لا يحسن أن يكون الإنسان وحده، فأصنع له عوناً بإزائه... فأوقع الربّ الإله سباتاً على آدم فنام، فاستلّ إحدى أضلاعه، وسدّ مكانها بلحم وبنى الربّ الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة، فأتى بها آدم، فقال آدم: ها هذه المرّة عظم من عظامي، ولحم من لحمي. هذه تسمّى امرأة، لأنها من امرئ أُخذت. ولذلك يترك الرجل أباه وأُمّه ويلزم امرأته، فيصيران جسداً واحداً". هذه الكلمات تحمل دلائل أنثربولوجية حول من هو الانسان ومن هي البشرية وما هي طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة وعلاقتهما مع الله. فالزواج بموجب سفر التكوين، لم يؤسس فقط لأجل تطور الجنس البشريّ بالانجاب لكن هو السبيل الذي يسلكه الناس لنمو شخصيتهم ولتحقيق إنسانيتهم. فالفروق الجنسية بين الرجل والمرأة والسيكلوجية والبيولوجية تشير إلى أن كلا من الرجل والمرأة ليسا كاملين بمفردهما، وأنّهما بحاجة أحدهما إلى الآخر، ليس لإرضاء الرغبات والدوافع الجنسية فحسب، بل ليكمل أحدهما الآخر. يحتاج آدم إلى شخص معين، ليس مجرد أن يقتسم معه العمل حتى يستطيع أن يصطاد أو يزرع، لكن شخص يقدر جهوده، ويشاركه ميوله واهتماماته، ويمنحه العاطفة التي ينالها بدوره منه أيضاً.
 

فالرباط الذّي ُخْلَق بين الرَجُل والمرأة في العلاقة الزَّوجيّة يقوم على أساس اتحاد شخص-رجل وشخص-إمرأة، حيث كلّ منهما يجد نفسه في كماليته مع الآخر،ويصبح كلّ منهما كاملاّ في كمالية الآخر، وذلك من خلال عطاء وقبول وجودي متبادل. فالرجل والمرأة، يتحدان كشخصين مختلفين بالجنس مع كل الغنى الروحي التي يمتلكها هذا الاختلاف على الصعيد الانساني، ليقيما الصلة الشخصية تهدف لتأسيس على الصعيد الصيغة الذكرية أو أنثوية وجود الشخص الانساني.

 

لذا نستنتج أنَّ الزواج في المفهوم العهد القديم مؤسّسة طبيعية مقدّسة ذات حقّ طبيعيّ ، الله الخالق هو مكّونها، وواضع نظامها، كونه صانع الطبيعة الإنسانية وميولها الطبيعية. وبالتالي لا يمكن أن يكون لهذا النظام أي تعلّق بالإرادات البشرية، ولا أيّ تعاهد مخالف، حتى من الزوجيّن نفسيهما. خواص مؤسّسة الزواج قائمة في الكيان الرجل و المرأة. أي مكوّناتها وسبب وجودها يتجوبان مع الميل الطبيعي في الإنسان المخلوق. والرجل والمرأة بالزواج يصيران "جسداً واحداً"، أي يكتمل "الإنسان" باتحاد الذَّكَر والأُنثى. وما يُشكّل الميل الأساسي للرجل نحو المرأة هو أنّه يجد فيها الضلع الذي انفصل عنه: فنقول أنّ الرجل والمرأة هما الأضلاع المتكاملة لذات الكلّ، واتحادهما يجب أن يُشكل من جديد الاتحاد الأوّلي المنفصل. فالمقصود من تعبير "جسد" ليس فقط الجسد الفيزيولجي، لكن كلّية الإنسان ككائن حيّ.

 

أمّا طبيعة مؤسّسة الزواج فليست على الإطلاق "نتيجة تطور لقوى طبيعية وتطور اجتماعي وثقافي خاضع للتغيرات" ولا إلى القوانين البيولوجية وحدها، "أو وليد مصادفة أو نتيجة تنامي قوى طبيعية عمياء"، إنّما هي تنجم من طبيعة الإنسان، أي من "طبيعة" الشخص البشري"، التي هي الشخص البشري عينه في وحدة النفس و الجسد، وحدة نزعاته الروحية والبيولوجية وسائر طبائعه الخاصة الضرورية لبلوغ غايته الأخيرة". لذا نقول أنّ الزواج حقّ طبيعي يتمتّع بحقيقة وبهيئة قانونية طبيعية خاصّة بها. ولأنَّ الزواج مؤسسة طبيعية فهي مساوية، في عناصرها الجوهرية، لجميع الناس في كل الأوقات، مهما كان السياق الثقافي، القانوني، الديني.

 

بينما العهد القديم يقدّم الزواج في سفر التكوين كحقيقة طبيعية (1، 27؛ 2، 18-25) نجد العهد الجديد يقدّم حقيقة الزواج الطبيعية على أنّها رُفعت من الرب يسوع المسيح إلى كرامة سرّ (مرقس 11: 10؛ لوقا 16: 18؛ متى 19: 6) وهذا يعتبر جزء من سياق تعاليمه: أنّه جاء ليكمل الشريعة القديمة. ويقول الرّب يسوع المسيح إنّ سرّ الزواج كان جزءاً من تدبير الخلق و نظامه، إنه العهد الزواجي الذي انشأه الخالق منذ "بدء الخليقة" (مرقس 10، 6) "أما قرأتم أنّ الخالق، من البدء، خلقه ذكَراً وأُنثى، وأنّه قال: لذلك يترك الرّجل أباه وأُمّه ويلزم امرأته، ويصيران كلاهما جسداً واحداً، ومن ثمّ، فليسا هما اثنين بعد، بل جسد واحد. وإذن، فما جمعه الله فلا يفرّقه إنسان" (متى 19: 4-6؛ راجع مرقس 10: 6-9). لذا يُشير الربّ يسوع إلى الاستمرارية في الزواج كما أراده الخالق في وقت الخلق والزواج المرمّم في تاريخ الخلاص، وهو يقوم في المحبّة التي تجود بها كلمة الله على البشرية باتخاذه طبيعة البشر، وفي ذبيحته وتضحية ذاته على الصليب من أجل عروسته. هكذا يصبح الزواج بين المعمّدين رمزاً واقعياً للعهد الجديد الأبدي المختوم بدمه". ويقوم جوهر السرّ الزوجيّ على إنشاء الزوجيّن كأيقونة حيّة لاتحاد الله الكلمة والطبيعة الإنسانية وبين المسيح والكنيسة بقوة الروح القدس المستدعى من الكنيسة. وما رفعه الربّ يسوع المسيح إلى كرامة السرّ هو الزواج الذي نظمته السلطة المختصة والزواج بحقيقته الطبيعية.

 

وهناك من النصوص تُظهر حقيقة الزواج كسرّ متّحد بشكل عضوي مع الطبيعة والطابع سرّ mysterion التجسد واتحاد المسيح بالكنيسة؛ وهو ليس رمزه، تقليده فقط، إنما هو صورة كونه ناجماً عن اتحاد المسيح بالكنيسة (مرقس 10:11؛ لوقا 16: 18؛ متى 19: 6). وهذا ما أسماه القديس بولس "سرّ عظيم" في الإشارة للاتحاد الزوجيّ بين المسيح والكنيسة"، القائم على أساس "العهد" بين الرجل والمرأة "صورةً ومثالاً" لعهد الله مع البشر والذي يتحقق بوجه نهائي في يسوع المسيح من خلال السرّ الفصحيّ، سرّ اتحاد المسيح مع الكنيسة، وهي علاقة حبّ وتضحية من قِبَل المسيح بلغت ذروتها على الصليب: "ليخضع بعضكم لبعضٍ بتقوى المسيح، أيتها النساء، اخضعن لأزواجكن خضوعكن للرب، لأن الرجل رأس المرأة كما أن المسيح رأس الكنيسة التي هي جسده وهو مخلّصها. وكما تخضع الكنيسة للمسيح فلتخضع النساء لأزواجهن في كلِّ شيء. أيها الرجال، أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة وجاد بنفسه من أجلها... إن هذا السرّ لعظيم، وإني أقول هذا في أمر المسيح والكنيسة. فكذلك أنتم أيضاً فليحبّ كلُ منكم امرأته حبّه لنفسه، ولتوقِّر المرأة زوجها" (أفسس 5: 21-32). يشبِّه بولس الرسول علاقة الزوج بالزوجة بعلاقة المسيح بالكنيسة. وطالب القديس بولس مرّات بواجب تكريم الزواج عند جميع الناس (العبرانيين 13، 4)، لأنه عمل الله الخالق. فجملة القديس بولس الرسول "زواجاً في الرَّبّ فقط" (قورنتس 7، 39) تُعبر عن نيّة العيش في الحياة الزواجية بحسب المباديء المسيحية.

 

والشهادة الأولى التي أقرّت تدخّل الكنيسة في موضوع مؤسسة الزواج هي رسالة القديس اغناطيوس الانطاكي، حيث قال: "من العدل من يتزوّج، سواء الرجال والنساء، أن لا يُعطوا حياة لاتحادهم إلاّ بالتصديق من الاسقف؛ لأن فكر الله يجب أن يترأس الزواجات وليس الشهوة.

 

لذلك، "جوهر الزواج المسيحي يستند على عناصر طبيعية وعناصر فائقة الطبيعة التي أسسها الله خالق نظام الخليقة ونظام الخلاص كجوهرية سواء لمؤسّسة الزواج في حقيقته الخلقية أم لسرّ الزواج بالنسبة للمعمّدين. والكنيسة اكتسبت معرفة هذه العناصر الجوهرية الزواج من خلال نور العقل الإنساني ومن خلال الوحي. لذا، الزواج يمكن تعريفه: عقد طبيعي رُفع للكرامة سرّ بالنسبة للمعمّدين. يُفهم في هيكليته الطبيعية بواسطة جذوره، أهدافه وتصميمه وتنفيذه أسست على الطبيعية العقلانية للإنسان". ويؤكد الوحي الإلهي، أنَّ هناك التحاماً في الزواج في النظام الطبيعي والزواج السرّيّ، فالأخير مقدَّس بطبيعته وبتأسيسه وسر من أسرار العهد الجديد، و إنّ مبدأ اللاانفصال بين الزواج الصحيح والسرّ تُعدّ نقطة مركزية للعقيدة الكاثوليكية: "النعمة تكمل ولا تهدم الطبيعة".

 

انطلاقاً من هذه المبادىء اللاهوتية، تؤكّد الكنيسة الكاثوليكية أن الزواج بتأسيس المسيح لا يمكن أن يكون بين المعمدين زواجاً صحيحاً إن لم يكن سراً. فربطت بين حقيقة الزواج طبقا لنظام الخلق مع السرّ، مؤكّدةً أن ما رُفع إلى كرامة السرّ من الربّ يسوع المسيح هو الميثاق الزواجي في حقيقته الخلقية. فلم تتكلّم عن عقد أنَّه "أصبح" سرّاً، أو أنه "يكتسب" الخاصية الأسرارية، لكن هو سرّ. فالكرامة السرّيّة التي رفع السيد المسيح العقد الزواجي إليها، ليس بعنصر المؤسّسة الزوجيّة، كالوحدة والديمومة إلخ"، لكن هو جوهر الزواج نفسه، أو أنَّ الأسرارية تتطابق مع الزواج نفسه. إذن ليس بشيء يُزاد على الزواج، لكن هو الزواج المسيحي نفسه. لذلك يمكن القول إنَّ الطابع السَّريّ للزَّواج لا يضاف ظاهرياً إلى طبيعة الزواج كعقد طبيعي، ولا أنه سرّ يقع بجانب أو فوق العقد، ولا على أنه إضافة، إنّما مرتبط به بشكل ضمني، وهو الزواج نفسه المحتفل به بين المسيحيين؛ أي أن بين المعمّدين لا يوجد زواج صحيح إن لم يكن سرّاً. فلا يمكن إلغاء مبدأ التطابق بين العقد والسرّ في زواج المعمّدين.

 

إذن "الاتحاد الزوجيّ ليس بعمل أَو اختراع إنسان؛ الله نفسه هو صانع الطبيعةِ؛ منذ أول ما يُسمى اتحاداً أمر بالتكاثر البشري وإنشاء العائلةِ؛ وفي شريعة النعمةِ، أراد تكريمه بشكل أفضل بمنحه طابع السرّ. فالزواج هو فعل مقدّس وسرّ، نظامه التشريعي يعود بشكل طبيعي، إلى السلطة الكنسيّة، ليس بتفويض من الدولة أو بموافقةِ السلطات المدنية، لكن بوكالة من المؤسس الإلهي. فالسيد المسيح وهب الكنيسة سلطاناً مطلقاً وخاصاً وحصريّاً يخولها دون سواها سن شرائع متعلقة بالزواج، فهي-الكنيسة- لها الاختصاص في فرض شرائع والحكم في الأمور الزوجيّة، وبما يجب القيام به من الطقوس والشكليات لصحّة الزواج وجوازه، وتطالب بهذا الحق تجاه السلطات المدنية. كما أنّ لها الحق أيضاً في أن تنظر وتحكم في جميع الدعاوي الزوجيّة العائدة الى صحة الزواج أو بطلانه أو فسخه ومفاعيل الزواج الأساسية. وإنَّ اختصاص الكنيسة لإصدار مثل هذه الشرائع لا ينجم من كون العهد الزواجي التي تُنظّمه سرّاً، لكن من قوّة مبدأ التطابق بين العقد والسرّ حيث تتمتع بالاختصاص الحصريّ على العقد. فعدم الانفصال بين العقد والسرّ يُمثل الاتحاد بين نظام الخلق والنظام الخلاصي، لذلك فرضى المتعاقدين في نفس الوقت تأسيسي للزواج وعلامة سريّة للزواج السرّ. وصحة السرّ لا يعتمد على اعتراف المتعاقدين المحتفلين بالزواج لكن على النيّة التي لديهم في فعل ما تفعله الكنيسة، وبعد ظهور هذه النيّة في عقد زواج صحيح، هذا سيصبح سرّاً ليس بإرادتهم لكن بالإرادة الإلهية. والزوجان في العهد الزواجي المؤسّس من الله الخالق، لا يُخلقا برضاهما المتبادل والحرّ مؤسّسة الزواج، لكنَّهما ينضمّان في مؤسسة طبيعية، مقدّسة ومدنية، خصبة بإنجاب البنين. وكُلّ قرار لزواج طبقاً لهذا المخطط الإلهي يقتضي في الواقع موقف الطاعةِ العميقةِ لإرادة الله.

 

المجمع الفاتيكاني الثاني في الدستور الرعوي حول الكنيسة في العالم اليوم "فرح و رجاء"، الذي أعلنه البابا بولس السادس بتاريخ 7-12-1965 قدم مفهوماً لاهوتياً جديداً لسرّ الزواج المسيحي، وفقاً لمبدأ الشخصانية المسيحية. نقرأ في العدد 48: "إنَّ الشركةَ الحميمة في الحياة والحبّ الزوجيّ... قائم على رِضى شخصيّ غير قابل للنقضَ والتراجع. وهكذا فالعمل الإنسانيَ الذّي يتبادلُ به الأزواج العطاء والتقبُّل هو توافقٌ ترابطيٌَ ثبَّتَتْه الإرادة الإلهية... والرجلُ والمرأةُ اللذان برباط الزواج "ليسا هما اثنين من بعدُ، بل جسدٌ واحد" (متى 19: 6)، يتعاونان ويُساند أحدهما الآخر بما بيْنهما من اتحاد حميم في الشَّخص والعمل...وهذا الاتحاد الحميم، كونه عطاءً متبادلاً بين شخصين، وكذلك خيرُ البنبن، كُلُّ ذلك يقتضي أمانةً تامةً عند الزوجيّن، وارتباط الواحد بالآخر ارتباطاً لا ينفصم...وكما أنّ الله قطعَ مع شَعبه قديماً عهدَ محبّةٍ وأمانة، هكذا أراد الآن مُخلّصُ البشر، عروس الكنيسة، أن يقابل الأزواج المسيحيّين بسرّ الزواج. إنّه لن يبرح مُقيماً معهم حتى يستطيعوا، وقد تبادلوا العطاء الذاتي، أن يحبّ بعضهم بعضاُ بأمانة متواصلة، كما أحبّ هو الكنيسة وبذل ذاته لأجلها".

 

بموجب فكر المجمع الفاتيكاني الثاني، ما يؤسّس شركة الحياة الزوجيّة هو فعل الرضى الإنسانيّ الحرّ الواعي، فعل إرادة شخصانيّة يتميز بطبيعته الزواجيّة، مؤسّس على وحدة الشخص البشري غير قابل للتجزئة، الذّي هو واحد وفريد، رغم تعددية مقوماته من: روح وجسد وقلب وضمير وعقل وإرادة، ينتمي لجنس محدّد، لديه طبيعة جسدية خاصّة، ينتمي إلى مجتمع وثقافة، يترعرع في بيئة محاط بعادات وتقاليد خاصّة. وهذا بالذات ما يُسمى بعبارة "محيطيّ"، وهو محيط حضاري وثقافي وسياسي واجتماعي وديني وطائفي وزماني ومكاني...، أي المحيط الذي ينشأ فيه الإنسان وينمو ويترعرع. والشخصية في القرار الإرادي لها حيّز واضح لأنَّ القرار نفسه يُعدّ التعبير الصادق عن الشخصية نفسها.

 

لذلك، بعد صدور الدستور الرعوي "فرح ورجاء"، مفهوم الزواج أصبح يقوم على اتحاد "أشخاص". "الشخص" أكثر مِنْ "جسد"؛ بالأحرى الشخص هو فرد يَشْملُ إرادات وحاجاتِ ورغباتِ واندفاعِ وآمالِ وأحلامِ، حيث خبرة الحياة شُكّلتْ من خلال البيئةِ -دينية عائلية ثقافية- التي منها هو أَو هي.

 

لذلك، هذه الشراكة بين الشخصين تعني أن كل شخص لا يُعطي أو يقبل قيمة أو صفة خاصة، لكن يهب شخصيته الكاملة، بكل جوانب وجودهما، وحتى الجنس أيضاً. فالشخص هو موضوع الشراكة بين الأشخاص. والزوج الذي يتصور أنه يستطيع أن يحتفل بزواجه دون أن يعطي حياته كلها، يجد نفسه وقد حجب جزءاً من ذاته من هذا الاتحاد، وهذا في حد ذاته يُعدّ زعزعة لأساس الزواج. فما لم يعط كل طرف ذاته كلها للآخر بلا تحفظ مدى الحياة، فلن يثق كل طرف في الآخر، وبدون هذه الثقة وهذا الشعور بالأمان والاطمئنان، لن يجد أي من الطرفين شجاعة المخاطرة، ولن يكون هناك سلام حقيقي يقود إلى الاستقرار والتقدم في بناء الأسرة الجديدة. هذا هو الطابع الخاصّ باتحاد الزوجيّ، الذي يتميّز بشكل جوهري عن أي اتحاد أخر والذي يستطيع ربط شخصين في أهداف خاصّة". والهبة في الزواج يجب أن تكون بدون حدود، وبطريقة نهائية وحصرية وبدون تحفّظ. ولا يَعْني أنَّ الزوج بهبة ذاته يُصبح عبداً للآخر. فالشخصِ في الزواجِ، يعطى نفسه في لحظة تاريخية محدّدة، كلّ الامكانيات التاريخية للشخص؛ كل ما يمكن أن يكون: في الصحةِ وفي المرضِ، في الفرح والحزن.

 

فالزواج هو نتيجة اتحاد شخصي، ثمرة هبة الذات للأخر الذي يُعطى بين الزوجيّن وليس بالنتيجة تبادل الأجساد. فقولنا الزواج "جسد واحد"، هذا يعني اتحاد الأشخاص في حياتهم الزوجيّة (نقول حياة "شركة" والزوجان هما"الشريكان")؛ وبهذا الاتحاد الحميم، في كونه عطاء متبادلا بين شخصين". كل متعاقد في العهد الزواجي يُحدد حريَّته الخاصة لصالح "خير" أَو قيمة شخصية الآخر الذي يرغب منه السعادة والخير المُطلق. فمن "يهب ذاته" فهو يتقبل الشخص في الزواج كهبة. وكل شخص هو هبة للآخر لأن الزوجيّن يهبان ذواتيهما بشكل متبادل وبحرية ومجانية، لكن كُلّ مِنْ الإثنين هو أيضاً هبة، لأن الزواجَ دعوة مقدّسة، لذا كُلّ من المتعاقدين هو بشكل ما قُدّم من الله إلى الآخر. والهبة لا تخصّ فقط الذات، إنّما الشخص بحقيقته كلّه فهو بشكل كامل ومتبادل موضوع هبة إلى الطرف الآخر. يُمْكِنُنا أَنْ نَقُولَ أنه يمكننا أن نحقق ذاتنا أو توجيه "الأنا" للكمال فقط بتقديم أنفسنا. هذا هو برنامج الإنجيل -أن نفقد حياتنا لخلاصها-وهذه تتعارض مع البرنامج المقدّم من علم النفس المعاصر: البحث عن الذات، انسجام الذات، الاهتمام بالذات".

 

وأيضاً هبة الذات، تقوم على الهبة الجنسيّة المتبادلة بين الزوجين، وأن تكُونَ منفتحَة على الحياةِ. نقرأ في الإرشاد الرسولي "في وظائف العائلة" (رقم 11): "ليس الجنس الذي يتبادل الرجل والمرأة بواسطته هبة الذات، بأعمال خاصّة بالأزواج ومقصورة عليهم، شأناً بيولوجيّاً خاصّاً، لكنه يتناول أعماق كيان الشخص البشري، بما أنه شخص بشري؛ ولا يتحقق بصورة إنسانية فعلاً إلاّ إذا كان جزءاً لا يتجزّأ من الحبّ الذي به يلتزم الرجل والمرأة التزاماً تاماً أحدهما تجاه الآخر حتى الموت وتكون هبة الذات الجسدية كذباً إن لم تكن علامة وثمرة لهبة الذات الشخصية الكاملة التي يكون معها الشخص البشري، بما فيه بعده الزمني، حاضراً: وإذا تحفّظ الشخص من أيّ شأن أو احتفظ لنفسه بامكانيّة اتّخاذ قرار مغاير في المستقبل، فلا يكون قد وهب ذاته هبة كاملة". لذا موضوع العهد الزواجي في التشريع الكنسي الكاثوليكي الحالي، يتطابق مع الأشخاص المتعاقدين أنفسهم وليس مع أي جانب "جزئي" من شخصيتِهم، فهما فاعلان أساسيان في العهد الزواجي، وبواسطته يحقق كل منهما ذاته بانتمائه إلى الآخر. وغاية العهد تحقيق الكيان الشخصي للمتعاقد هما حقيقتان متلازمتان فيما بينهما بشكل تأسيسيّ، أي أنّه بشكل غائي شخصي. على ضوء هذا ينبغي فهم الزواج ليس فقط بالعودة إلى العناصر الأساسية المكوَّنة للعهد الزوجيّ، بل أيضاً الأخذ بعين الاعتبار مسار الحياة الزوجيّة، لأنَّها ليست حقيقة معزولة عن حياة الإنسان الشاملة وكأنّ لها مقاييسها وغاياتها المطلقة، بل هي حقيقة بشريّة إنسانية تتبع الإنسان. فليس اللحظة التأسيسية للزواج التي تعبر عن تشكيل الاتحاد بين المسيح والكنيسة فقط، لكن أيضاً العلاقة الزواجية التي تظهر استمرارية ذاك الاتحاد السري والمقدس. هذا يعني ببساطة أنّ سبب الزواجِ، هو شركة حياة كلّها بين رجل وامرأة، بهدف الإنجاب وتربية البنين.

 

على أساس الحياة الزوجيّة المشتركة، لا بُدّ من وجود فعل يهب من خلاله كل واحد للآخر ليس شيئاً مما يمتلك الطرف، و إن كانت ذات قيمة ثمينة جداً، لكن يُعطي من خلاله نفسه كما هو، أي هو فعل حبّ وفقاً للمبدأ الانجيلي "ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه" (يو 15، 13). وهذا الحبّ الرائع الإلهي والإنساني، بكونه انعطافاً اراديّاً من شخص نحو شخص آخر، يشمل على خير الشخص بكامله... والحبّ يقود الأزواج إلى تبادل في العطاء الذاتي الحرّ. هنا تظهر كمال حقيقة الحبّ الزوجيّ، حبّ بين الأشخاص، حبّ يتمركّز في الشخص، في خيره، خير يهبه كلا الزوجيّن لبعضهما.

 

هذا فضلاً عن أن دوام العلاقة الزوجيّة أمر ضروري لإعطاء فرصة للنمو التدريجي للفهم والتعاطف والانسجام والحب المتبادل بين الزوجيّن. وبدون هذا الحب وهذا التعاطف لن تتحقق السعادة. إن كثيرين من أصحاب النظرة الرومانسية الخيالية يتصورون أنه عندما يقع شخصان في الحبّ، فسرعان ما تتحطم الحواجز بينهما كما ولو بقوة سحرية، وحالاً يتم الانسجام بلا معوقات. وقد يبدو الأمر كذلك في نزوة الانفعال الطارئ والحماس الوقتي؛ لكن الواقع يؤكد عكس ذلك بإن عملية التفهم المتبادل والانسجام معاً عادة تتم ببطء شديد... ولعل عدم استعداد الشريكين لتقبل وتحمّل معاناة هذا التكيّف البطيء هو السبب في كثير من حالات الطلاق التي تتم بعد حبّ جارف... معظم الناس إن لم يكن كلهم يريدون حلولاً سريعة لمشكلاتهم، وهذا ضرب من الخيال. التكيّف السليم في العلاقات الجنسية بين الرجل والمرأة قد يحتاج إلى شهور وسنين أحياناً، كذلك تكيفهما معاً وانسجامهما في أمور أخرى مثل الذوق، والنظرة إلى الحياة، والطباع، قد يحتاج إلى وقت أطول. وهذا ليس شيئاً غريباً إذ أنّ أنانية الإنسان واهتمامه الزائد بنفسه، وغير ذلك من المكونات المركبة في شخصيته تعوق قدرته على عطاء النفس للطرف الآخر بلا حدود، وتحتاج إلى وقت وصبر لكي تجد طريقها إلى الاستقرار.

 


الخاتمة

لذا أعتقد أنَّ كلمات القديس بولس الرسول "فسيأتي وقتٌ لا يحتملُ فيه النَّاس التَّعليمَ السَّليم، بل يُكدِّسون المعلِّمين لأنفسهم وفق شهواتهم لما فيهم من حكَِّةٍ في آذانهم فيُحوِّلون سمعهم عن الحقّ وعلى الخُرافات يُقبِلون" (الثانية إلى طيموتاوس 4، 3-4) تجد نفسها في واقع حياة الكنيسة، وفي حياة المجتمع أيضاً بشكل عام، ويمكن أن يكون لها صدى واضح في حقل العائلة، والزواج. لكنَّ الكنيسة موقنة كل اليقين أنَّ ما يضعه الإنسان بحقّ في الزواج والعائلة من آمال لا يتحقّق إلاّ بقبول الإنجيل"8. فهي حفاظاً على كل ما يتعلق بالزواج من حقيقة، أعطت العديد من الردود أمام المصاعب الزوجيّة، من بينها الاعتراف بموضوعية الزواج، كهبة متبادلة ممكنة أُعطيت من الله نفسه. فالكنيسة ترجو من الزوجيّن "تحمّل الالتزامات الناتجة عن زواجهما بمحبّة وتضحية، ففي كلّ زواج يُصْبحُ سرّ الخلاص حاضراً، بواسطة مشاركة حقيقيّة في صليب المسيح. فإن الخلافات الزوجيّة يجب ألا تكون مخرجاً إلى بطلان الزواج، بل بالأحرى مدخلاً إلى التفتيش عن حلول ترتكز على سر الفداء وقيامة السيد المسيح، لتؤدي إلى المصالحة مع الله ومع بعضهما معاً". بهذا البعد الديني يجب على الأزواج المسيحيّين أن ينموا باستمرار في شراكتهما عبر أمانتهما اليومية لوعديهما الزوجيّ وأن لا يسيرا على هواهما، بل أن يخضعا أبداً لسلطان ضميرهما، على خطّ الشريعة الإلهيّة، وأن يُذعنا لسُلطة الكنيسة التعليميّة التي تفسُّر هذه الشريعة على ضوء الإنجيل تفسيراً صحيحاً. من هذا المنْظُور لا بُدّ من مسار تعليميّ دينيّ يؤمنّه رعاة الكنيسة للأزواج من خلال الإعداد للزَّواج الذّي لا يمكن أن يقتصر على اطلاع بسيط لما هو عليه الزواج بالنسبة إلى الكنيسة، بل يجب أن يكون هناك مخطط تثقيف حقيقيّ للأشخاص، بواسطة التربية على الإيمان والفضائل.